تمثل الهجرة النبوية الشريفة أكبر نقطة تحوّل في تاريخ الأمة الإسلامية، ليس على صعيد الدلالة السياسية، فحسب، كما تذهب أغلب القراءات، بل على صعيد الدلالة الإنسانية والحضارية والثقافية والدينية أيضاً.
على المستوى الأهم، النص المؤسس لعقيدة الأمة ورسالتها وكلمتها وتشريعاتها، فإنّ مفسري القرآن وعلماء الفقه يميزون بين "النصوص المدنية" و"النصوص المكية"، أي ما بعد الهجرة وما قبلها.
النصوص المدنية تتناول القضايا الحياتية التفصيلية الفقهية وتؤسس للتشريعات لكافة مجالات الحياة.
أما النصوص المكية، فتركز على غرس العقيدة وتثبيت الثلة المؤمنة في مواجهة بطش المشركين وتقارع الحجة بالحجة.
المحاججة العقدية في القرآن تختلف بين الفترة المكية والمدنية، في المكية كانت مع المشركين وعبدة الأصنام، وركزّت على محاربة الموروث العقدي من الآباء والأجداد وتأكيد حقائق الإيمان من الوحدانية والبعث والنشور والجنة والنار، ومسار الأنبياء والمرسلين.
في الفترة المدنية برزت محاججة أهل الكتاب وتفنيد عقائدهم والرد العقلاني عليهم، تبعاً لاختلاف طبيعة التحدي والتهديد للدعوة الإسلامية.
الهجرة كانت نقطة تحول، أيضاً، على صعيد المؤسسات الدينية والسياسية وعلاقة المسلمين بالشركاء في الوطن وباقي المجتمعات والعالم.
في مكة، كنا مع مجموعة من المؤمنين، الذين يتعرّضون لامتحانات واختبارات في إيمانهم وصبرهم وثباتهم على دعوتهم وتنقيح وتصفية للصادقين الثابتين من المهتزين المتذبذبين.
في المدينة الوضع مختلف بالكلية، فالرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - أصبح من ورائه دولة ومسؤول عن حماية وإدارة مجتمع متعدد الأديان والأعراق.
وفي وقفة سريعة خاطفة عند هذه القضية، نجد أنّ أغلب الخطابات الإسلامية تتحدث عن تأسيس الدولة الإسلامية مع وصول الرسول إلى المدينة المنورة، لكنّها تقفز على تشريح وتحليل الأسس التي قامت عليها هذه المدينة، وتحديداً الوثيقة الأهم، التي وقعها الرسول الكريم مع اليهود وباقي سكان المدينة المنورة.
تلك الوثيقة الأم - المرجعية أكدت نصوصها على المفاهيم المدنية والعقد السياسي الإنساني الذي تتأسس عليه السلطة الإسلامية، وعلى ضمان الحقوق الدينية والمدنية للطوائف والأديان المختلفة الأخرى، وفي الوقت نفسه على الواجبات الوطنية التي يشترك فيها الجميع مسلمين وغير مسلمين.
هي وثيقة تؤسس لفقه سياسي إسلامي متطور يتجاوز كثيراً من المقولات الجامدة عن الدولة الإسلامية، التي أرادت أن تختزلها في سياق أيديولوجي، وكأنّها دولة دينية، نصوصية، وظيفتها التطبيق الإلزامي للدين، وتطبيق الحدود الشرعية، وفق قراءات فقهية محددة.
فالدولة الإسلامية هي إنسانية تعاقدية مدنية بالأساس، تقوم على التوافق والاتفاق، وعلى احترام الحقوق والحريات، وتعزيز الجوامع الوطنية والأخلاقية في العلاقة بين المواطنين والشركاء، فهي دولة المواطنة والوثيقة والقانون الحاكم على الجميع.
الملحوظة الأخيرة الخاطفة، في هذا المقام، ترتبط باستخدام السلاح والقوة، إذ أبيح ذلك بعد الهجرة وحظر قبلها، كما ورد في الآية الكريمة "أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا، وإن الله على نصرهم لقدير"، والدلالة الرئيسة في ذلك أنّ السلاح يرتبط بالمفهوم الإسلامي بالسلطة والدولة ووظيفتها، مع خصوصية الحالة الإسلامية التي تمثل بوجود وظيفة دينية عقدية للدولة.
بالرغم من الاضطهاد والتعذيب والعنف الذي تعرّضت له الجماعة المسلمة في مكة لم يسمح لهم الشرع باستخدام السلاح. لكن مع الهجرة النبوية أصبحت الدولة هي صاحبة الحق الحصري في استخدام السلاح واستعماله.
حتى في حروب الردة، فلم يكن السبب في وقوعها مجرد الخروج من الإسلام أو تغيير المعتقد، كما يذهب تيار كبير، بل هي وفقاً لرأي فقهاء معتبرين، كالقرضاوي وطه جابر علواني، مرتبطة بالخروج على الدولة الإسلامية وتهديد الأمن ورفع يد الطاعة ونقد العقد السياسي القائم، ما كان يهدد السلم الداخلي ووحدة الدولة الجديدة.
في المحصلة، الهجرة كانت قناة لعبور الدعوة الإسلامية إلى الإقليم ثم إلى العالم، وأسست لبداية التاريخ لأهميتها باعتبارها مرحلة الانطلاق من البعد المحلي إلى البعد الإقليمي والدولي وتكريس أبعاد الرسالة الإنسانية للدعوة الإسلامية.